البكتيريا الصديقة في أمعاء الأطفال حديثي الولادة وعلاقتها بالرضاعة
لا غنى عنها لجسم الإنسان
الرياض:«الشرق الاوسط»
يعلم الباحثون منذ أكثر من مائة عام أن الإنسان يحتضن مجتمعات كبيرة العدد ومختلفة الأنواع من البكتيريا في أمعائه، وأن أنواع البكتيريا الصديقة تلك يتجاوز 400 نوع، ويستوطن غالبها الأمعاء. ومع علمنا بخلو جسم الجنين، السليم والعادي، تماماً من أية بكتيريا، حينما يكون داخل رحم أمه. يأتي السؤال: من أين وكيف يكتسب الطفل المولود هذه الأعداد الهائلة من البكتيريا؟ وكيف تبدأ بالدخول والخروج من جسمه، لتستوطن بالتالي الأمعاء لديه بصفة دائمة؟ والأهم لماذا تبدأ عملها الإيجابي لصالح الجسم وصحته لدرجة أن يُصبح الجسم معتمداً عليها، ووحدها، في العديد من المهام الحيوية؟
* بكتيريا صديقة
* وتحتوي الأمعاء الغليظة في جسم الإنسان الطبيعي والسليم من الأمراض على حوالي 100 تريليون من البكتيريا غير الضارة، لأن ثمة تقريباً 10 انواع من البكتيريا الصديقة في الجسم لكل خلية حية واحدة في جسم الإنسان. وتعيش البكتيريا تلك وتتكاثر لتساعد جهاز مناعة الجسم على محاربة الأمراض ومنع تكاثر الميكروبات الضارة. كما وتنتج للجسم كمية مهمة من فيتامين «كي» وغيره. وتسهم في منع تأثير المواد الضارة على القولون ووظائفه كي لا تظهر أعراض الإسهال أو الإمساك أو كثرة الغازات، وغيرها من الفوائد. ولذا فإن تناول أنواع من البكتيريا غير الضارة أو ما يُسمي «بروبايوتك» Probiotic، من المعتقد اليوم أنه أمر مفيد صحياً. وبحسب إحدى نشرات مايوكلينك فإن بكتيريا بروبايوتيك المستخدمة في إنتاج بعض مشتقات الألبان كلبن الزبادي وغيره تساهم في المحافظة على توازن جيد للبكتيريا النافعة في القولون، كما أنها تُسهم في تخفيف أعراض الحساسية من الحليب حينما يعاني البعض من ضعف الأمعاء الدقيقة عن هضم سكر اللكتوز في الحليب بشكل كامل مما يؤدي إلى نشوء حالات الإسهال وكثرة الغازات لدى الإنسان كلما تناول الحليب أو مشتقاته. كما أنها تسهل الهضم وربما تؤدي دوراً في حماية الإنسان من الإصابة بالسرطان أو ارتفاع الكولسترول. ويُعتبر الحرص على سلامة وجود البكتيريا النافعة في القولون، أحد الاهتمامات الطبية. ولذا نلحظ حرص الأطباء على عدم الإسراف في وصف المضادات الحيوية، لأن أحد أهم أسباب هذا التوجه الطبي، هو المحافظة على هذه الأنواع من بكتيريا الأمعاء. كما أن أحد أهداف حرص الأطباء على النصيحة بتناول الألياف من الخضروات والفواكه، هو أن تقتات عليها البكتيريا الموجودة في الأمعاء. ما يعني تكاثرها بشكل جيد وزيادة نموها، لأن أمعاء الإنسان لا تهضم تلك الألياف، بخلاف البكتيريا الطبيعية والمفيدة التي تستطيع ذلك.
* علاقة الجنين والبكتيريا
* يخرج الجنين إلى الدنيا حين ولادته، وهو يعلم الكثير عمّا يدور فيها ومنْ فيها وكيف يتعامل معها، وغيرها من المعلومات الغريزية المختزنة لديه كهدية من أمه له حال دخوله دنيا عالم الحياة الخارجية. وما حاول الباحثون من الولايات المتحدة معرفته هو بدايات قصة تعامل الطفل الحديث الولادة مع البكتيريا الصديقة بالذات، بدون تلك الضارة المؤذية له، واستخدموا وسائل معقدة للغاية في التحليل الجيني لعينات من براز الأطفال في مراحل متعاقبة من سنة حياتهم الأولى، لكي يتم وضع تصور لدخول البكتيريا إلى أمعائهم وكيفية استيطانها بشكل سلمي ومتعاون فيها، واستيعاب جسم الطفل لهذه المخلوقات الدخيلة وترحيبه بها.
ووفق ما تم نشره في عدد 29 يونيو من مجلة المكتبة العامة للعلوم الحيوية، وهي واحدة من أهم الإصدارات العالمية العلمية في الولايات المتحدة، فإن الدكتورة شانا بالمر، الباحثة الرئيسية في الدراسة من جامعة ستانفورد الأميركية، تساءلت بالقول «أنا لا أعلم كيف كنّا، كبشر، سنبدو لو لم تستوطن أمعاءنا البكتيريا الصديقة microbiota. لأنها مهمة. وتساعدنا كي نستخلص الكثير، من المواد الغذائية في طعامنا، الذي نأكله. وهي مهمة لجهاز مناعة الجسم. كما أنها تحمينا من تكاثر الميكروبات microbes التي ستضر بنا».
والمعلوم أنه وقبل الولادة، تكون أمعاء الجنين نقية وخالية من البكتيريا. لكن سرعان ما توجد البكتيريا في أمعاء الأطفال حديثي الولادة، والتي يكتسبونها أثناء مرورهم بقناة الولادة، عنق الرحم والمهبل، وأثناء رضاعتهم من حلمة ثدي الأم، وحتى من ملامستهم لأجسام أمهاتهم أو آبائهم أو إخوتهم. وخلال بضعة أيام فقط، يتكون نظام من مجتمعات أعداد متزايدة من البكتيريا. والتي تتكاثر وتزداد الأعداد فيها، لتصل نسبة عددها، عند مرحلة البلوغ، أكثر من عشرة بكتيريا صديقة في الأمعاء لكل خلية حية في جسم الإنسان كله.
* دراسة متميزة
* وتتبعت الدراسة 14 طفلاً حديث الولادة، ممن تمت ولادتهم مكتملي النمو ولا يشكون من أية أمراض، وممن يتناولون رضاعة طبيعية من أثداء أمهاتهم. وأحد الجوانب المهمة في الدراسة أنها شملت توأما تمت ولادته من خلال عملية قيصرية مُخطط لها بشكل مسبق. ولأن غالبية أنواع البكتيريا الصديقة الموجودة في الأمعاء لا تستطيع النمو في أجواء تحتوي على الأوكسجين، فإن من الصعب، أو من المستحيل، معرفة وجودها بإجراء مزرعة لعينة البراز، كما هو متبع عادة في معرفة وجود البكتيريا المرضية في أمعاء أو براز الإنسان عادة. ولذا توجه الباحثون إلى استخدام تقنيات التعرف والتمييز باستخدام الحمض النووي DNA microarray technology . وبها تم التعرف على جميع أنواع البكتيريا الموجودة في عينات براز الأطفال، حتى لو كانت أعداد تلك البكتيريا بالآلاف أو الملايين.
وتم تجميع 26 عينة براز، بدأ من أول مرة يتبرز الطفل فيها من بعد ولادته مباشرة، وطوال العام الأول من العمر، في فترات متعاقبة. وخاصة بعد مرور الطفل بأحداث مهمة، مثل قبل السفر وبعد العودة منه، والمرض وتناول مضاد حيوي لمعالجة، وغيره.
* نتائج مثيرة
* وكانت النتائج، كما قالت الدكتورة بالمر، مثيرة. لأن الباحثين وجدوا أن أنواع البكتيريا في مجتمعات بكتيريا الأمعاء تختلف بشكل كبير من طفل لآخر. وذلك من ناحيتي نوعية البكتيريا الموجودة في وقت ما، وكيفية تغير نسبة وأعداد الأنواع على مر الوقت. وهي نتائج مهمة لأنها تُوسع من تعريف ما يُمكن اعتباره صحيا أو غير صحي، في مجتمعات بكتيريا الأمعاء.
والواقع أن النتائج اشارت الى أن الأطفال يتفاوتون في بدء ظهور البكتيريا في أمعائهم، حيث أنها ظهرت لدى البعض خلال الأربع وعشرين ساعة الأولى ما بعد الولادة، وتأخرت لدى البعض الآخر. وأن ليس ثمة نظام واحد لدى كل الأطفال لوجود أعداد البكتيريا تلك، في المراحل الزمنية الأولى بعد الولادة. وليس هناك أيضاً وتيرة واحدة لنسبة كل نوع من فصائل البكتيريا مقارنة بنسبة الفصائل الأخرى منها، وأنه حتى لدى الطفل الواحد تتغير نسبة الأنواع من آن لآخر.
وهذا يعني أننا نتعامل مع عالم يبدأ صغيراً جداً ليُصبح كبيرا جداً من ناحية العدد. ومع عالم متقلب ومتحرك بدون أي استقرار، من ناحية أنواع البكتيريا في مجمل التركيبة السكانية لأنواعها المستوطنة في الأمعاء. وأن ثمة ما يُمكن وصفه بظهور سيطرة سلالات لأنواع من البكتيريا في مراحل، ثم تتغير اللعبة بظهور سيطرة أنواع أخرى. والأمر هنا لا علاقة له بالعدد، بل بالحيز الجغرافي للأمعاء الذي تسيطر على مساحاته أنواع دون أنواع، في أوقات دون أخرى.
لكن مع مرور الوقت، تبدأ الأوضاع في الاتجاه نحو الاستقرار إلى ما يتشابه بالتي توجد في أمعاء البالغين لمجتمعات البكتيريا الصديقة تلك.
* دور العوامل الجينية والبيئية في ظهور البكتيريا الصديقة
* أعطت الدراسة الجديدة لمحة أفضل وأدق في معرفة متغيرات بداية تكون مجتمعات البكتيريا الصديقة المستوطنة بشكل طبيعي في أمعاء الإنسان. وأهميتها كبيرة للباحثين الطبيين، وأيضاً للأمهات وللآباء. ولعل أولى الملاحظات التي أفادتنا بها الدراسة هي توضيح بعض من العوامل التي تُشكل عناصر أنواع وسلالات البكتيريا الصديقة في أمعاء الأطفال. على سبيل المثال، فان إحدى النقاط المُختلف فيها علمياً هي أنواع بكتيريا التغذية الحيوية. وهي أنواع من البكتيريا التي لديها سمعة جيدة من ناحية فوائدها الصحية، والتي يُقال ان العمل على إكثار وجودها يستحق الاهتمام. وأول ما يُشار إليه عادة، مما كانت الدراسات السابقة قد توصلت إليه، أن أفضل وسيلة لتكثيرها في أمعاء الطفل الصغير جداً هو إرضاعه بالرضاعة الطبيعية من ثدي الأم.
لكن الدراسة الجديدة الدقيقة في وسائل معرفة أنواع بكتيريا الأمعاء، تفيد بأن الرضاعة الطبيعية التي تمت لكل الأطفال في الدراسة لم تُؤد إلا إلى وجود كميات ضئيلة من أنواع البكتيريا تلك فعلياً في أوائل فترة السنة الأولى من العمر. واستغرق الأمر بضعة أشهر كي تكثر أعداد البكتيريا تلك.
وقالت الدكتورة بالمر، إن هذا مثير ومحير، لأن كثيراً من الدراسات السابقة قالت بأن هذه النوعية من البكتيريا المفيدة تُشكل نسبة عالية مباشرة بعد الولادة، حينما تتم رضاعة الطفل بشكل طبيعي.
ولحسن الحظ أن الدراسة شملت احد التوائم، لأن دراسة مراحل تشكل مجتمع البكتيريا الصديقة لديهم، وخاصة أنواع التغذية الحيوي، ساعدنا في فهم دور جوانب أخرى غير الرضاعة الطبيعية، وتحديداً، كما قال الباحثون، دور العوامل الجينية الوراثية ودور العوامل البيئية، لان الأمور كانت متشابهة لدى التوأمين اللذين تمت ولادتهما بعملية قيصرية. ولذا بدأت تتشكل المجتمعات تلك ببطء في أمعائهما، وتشابهت أنواع البكتيريا فيها، ما قد يعني دوراً أكبر في التأثير للعوامل الجينية والبيئية المتقاربة فيما بين كلا التوأمين.