قبل نحو مائتي عام نظر محمد علي حوله يفتش عن بشر يبني بهم الدولة المصرية الحديثة التي كان يحلم بها فلم يجد. كان نمط التعليم السائد أعجز من أن يوفر حاجة الدولة الحديثة لمحاسبين ومهندسين وأطباء ورجال قانون وضباط وغيرها من المهن الحديثة التي لم يكن المصريون يعرفون عنها الكثير. اتجه محمد علي إلي نظام تعليمي حديث يوفر لدولته الجديدة القوي البشرية اللازمة, هذه الفلسفة التي اتبعها محمد علي في بداية القرن التاسع عشر ظلت كما هي حتي مطلع القرن الحادي والعشرين باسثناء شيء واحد فعله محمد علي ولانستطيعه الآن. نظر محمد علي في تجارب الدول المتقدمة واستقدم الخبراء منها.
الآن لدينا سياسة عالية ونرفض دون سبب واضح أن ينظر غيرنا في نظامنا التعليمي الذي نعترف جميعا بأنه يعاني مشكلات كثيرة.
كانت الدول الناشئة قادرة علي استيعاب خريجي المؤسسات التعليمية التي أنشأها محمد علي وأبناؤه من بعده. وشيئا فشيئا تزايدت أعداد الخريجين, بينما تضاءلت قدرات الدولة علي استيعابهم فظهرت البطالة في خريجي مؤسسات التعليم. لم تلجأ الدولة بعد ثورة52 إلي حل واقعي سليم للمشكلة ولكنها احتوت المشلكة بقرار سياسي فألزمت نفسها بتعيين الخريجين الذين تزايدت أعدادهم عاما بعد آخر. وفي ظل ذلك الالتزام السياسي غير الواقعي نشأ الكثير من المشكلات.
أولاها: الاختلال الشديد في العلاقة بين التخصص الدراسي والوظيفة وشهدنا لسنوات خريجي الهندسة والعلوم والطب البيطري يعملون في وظائف كتابية.
ثانيتها: تراجع الأهمية الحقيقية لمؤسسات التعليم في المجتمع بما أنها أصبحت مجرد مؤسسات لتخريج موظفين لاشيء يرجي منهم في دفع قدرات المجتمع علي التنمية.
ثالثتها: شيوع عقيدة مجتمعية بأن أي تعليم بأي مستوي سوف ينتهي بوظيفة في الجهاز الحكومي أو في غيره. ولم يعد مستوي التعليم يمثل قيمة بذاته مادامت الدولة ملتزمة بالتعيين وأنه مجرد وسيلة للحصول علي شهادة ووظيفة في اقتصاد محلي منهك. ولذلك مارس المجتمع أكبر قدر من الضغوط علي المؤسسات التعليمية وأصبحت الامتحانات وسياسات القبول والتخصصات الدراسية ومواعيد بدء الدراسة تخضع لمزاج الرأي العام أكثر مما تخضع لرؤية خبراء التعليم.
قبل سنوات قليلة تحررت الدولة من هذا الالتزام الذي عطل قدرات الاقتصاد المصري علي النمو وعطل التعليم عن التطور. لكن المجتمع لم تتغير به نظرته إلي التعليم: شهادة تضمن وظيفة مهما تكن طبيعتها ومهما يكن عائدها. ولم تتغير أيضا فلسفة التعليم لدي المؤسسات القائمة عليه فزادت المشكلات وتعقدت وأصبح الحل مؤلما للحكومة والمجتمع علي السواء. لم تكن تجربتنا في الربط بين التعليم والوظيفة فريدة من نوعها.
فلها أشباه في دول أخري كثيرة بعضها نجح في ضبط المعادلة وبعضها لايزال مثلنا يعاني نتائجها. كانت العولمة فرصة فريدة أمام كثير من الدول التي عجزت أسواقها عن استيعاب خريجي مؤسساتها التعليمية فنظرت إلي الأسواق الخارجية. ولكن العولمة التي أوجدت المنتج العالمي والمستهلك العالمي تطلبت أيضا الخريج العالمي أي المتعلم وفق المعايير العالمية التي تؤهله للعمل في أي مكان من العالم. قبل نحو خمس عشرة سنة كانت هناك علي الأقل وظيفة واحدة من بين كل عشرين وظيفة في الولايات المتحدة ترتبط بالأنشطة التجارية والاقتصادية العالمية.
هذه النسبة تزايدت حتي وصلت إلي نحو خمس وظائف. هذه النسب قائمة بدرجات متفاوتة في اقتصادات دول كثيرة مثل سنغافورة وماليزيا والصين والهند وتايوان ناهيك عن دول أوروبا الغربية واليابان. في هذه الدول يرون التعليم قوة هائلة للرخاء الاقتصادي في عصر العولمة حيث التعليم معرفة والمعرفة قوة.
تعلمت هذه الدول كيف ان التكنولوجيا الجديدة وأساليب عمل الشركات العملاقة فتحت سوق العمل أمام بلايين الناس في أي مكان حيث أبطلت تكنولوجيا الاتصال مفهوم المكان في الوظيفة. هذا التحول الجديد في سوق العمل يلقي دعما هائلا من النمو المتزايد في التجارة الدولية حيث تقدر الصادرات في العالم الآن بنحو12.5 تريليون دولار سنويا وهو مايعادل20% من إجمالي الإنتاج العالمي.
وفي ظل هذا الواقع الجديد فإن المهارات العليا تستحق المزيد من الأجور. وتشير بعض الدراسات الاقتصادية إلي أن المستوي المرتفع لطلاب المرحلة الثانوية في الرياضيات كفيل بزيادة دخولهم في المستقبل بنسبة12%. في الولايات المتحدة هم يرون أنه إذا ما تم الاهتمام بتطوير مهارات الطلاب في الرياضيات والعلوم لتبلغ المستويات العالمية خلال العقدين القادمين, فإن الناتج القومي الأمريكي سوف ينمو بما قيمته36% خلال السنوات الخمس والسبعين القادمة. جاءت تلك التغيرات في سوق العمل لتؤكد أهمية المهارات العليا علي حساب المهارات الأدني.
في الولايات المتحدة انخفضت نسبة وظائف العاملين من ذوي الياقات الزرقاء ووظائف الدعم الإداري من56% عام1969 إلي39% عام1999 بينما زادت نسبة الوظائف التي تتطلب مستويات أعلي من التعليم ومهارات متخصصة من23% إلي33% خلال نفس الفترة. وكان رفع مستويات التعليم ضرورة اقتصادية.
في الماضي كانت الشركات العالمية تلجأ إلي العمالة في روسيا والبرازيل والهند والصين وشرق أوروبا لأداء وظائف لاتتطلب سوي قدر ضئيل من المهارات وتتلقي قدرا أقل من الرواتب ولكن الواقع الآن يتغير فالكثير من الوظائف التي تتطلب مهارات عليا تهاجر خارج دول الغرب الصناعية بسبب ارتفاع مستويات التعليم. بل إن دولا مثل الهند والصين لم تعد مصدرا لعمالة رخيصة أو ضعيفة المهارات بل أصبحت أيضا مصدرا للكثير من براءات الاختراع. ففي الفترة من1995 وحتي عام2006 تضاعف عدد براءات الاختراع في مجال الأدوية إلي أربعة أضعاف.
وافتتحت أكبر عشرين شركة أمريكية متخصصة في مجال' اشباه الموصلات' مراكز تصميم لها في الهند. لقد أمسكت دول كثيرة بالفرص الجديدة المتاحة. ففي غضون بضعة أجيال تمكنت كوريا من اللحاق بالولايات المتحدة ثم تجاوزتها في مستويات التعليم الثانوي وكان لهذا التطور تأثيره الهائل في نمو الاقتصاد الكوري. ففي عام1960 كان الناتج الاقتصادي المكسيكي ضعف الناتج الاقتصادي الكوري. وفي عام2003 أصبح الناتج الاقتصادي الكوري ضعف نظيره المكسيكي.
وكما يقول تقرير البنك الدولي' إن إسهام المعرفة الناتج عن التعليم كان العنصر الرئيسي في معجزة النمو الاقتصادي لكوريا.' يقول البروفيسور جون كاو من جامعة هارفارد إنه عقب الحرب العالمية الثانية كانت دولة واحدة تحتل قمة الإبداع هي الولايات المتحدة. أما الآن فقد ظهر متسلقون جدد لتلك القمة تحديا للتفوق الأمريكي. بعض هذه الدول كان مفاجأة مثل البرازيل وفنلندا واستونيا والدنمارك وسنغافورة وتايوان. ولكن لم يكن من قبيل المصادفة أن تحتل نفس هذه الدول قمة قائمة الدول الأفضل تعليما. العالم الآن يتغير ولابد أن تتغير فلسفة التعليم وموقعه من محركات التنمية في بلادنا وأن نكف قليلا عن الشكوي حتي نوفر للتغيير الفرصة. يقول أحد الخبراء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية:' إن النجاح سوف يكون حليف الأفراد والدول الأكثر سرعة علي التكيف والأقل شكوي والأكثر انفتاحا علي التغيير'.