عمر بن عبدالعزيز.. الحاكم الراشد
أبحرت فى الإنترنت تأملت ما يعانيه الجميع، عواصف عاتية من الشدة، وأمواج متلاحقة من القهر والمصاعب، مما يؤثر على النفس ويصيبها بالإحباط، لذا فإننا فى أمس الحاجة للحظات من الهدوء والسكينة لنستعيد بها قوانا.. قلت لنفسى ما لنا لا نلجأ إلى تراثنا بما يضمه من كنوز، تمتلئ بالحكمة والقدوة الأصيلة، فقررت أن أصطحبكم ولنغوص سويًا فى بحار التراث لنلتقط النفائس والدرر، ثم نجلس على شواطئها لنتأمل..
يبقى أن أقول ابتداء إن معلومات الإنترنت غير موثقة فى الأغلب فعذرًا، ولكن دعونا ننظر إليها من حيث ما تضمه من قدوة ربما تؤدى لإصلاح الذات أو الغير.. يتحدثون عن «الحكم السياسى الرشيد» وماله من تأثير على نهضة الأمة، فهدانى تفكيرى المتواضع إلى سيرة الخليفة الخامس عمر بن عبدالعزيز، وكيف توفر لحكمه الفكر السياسى، والرؤية الاستراتيجية الواضحة، فازدهرت فى عهده الأمة الإسلامية..
تبوأ عمر الأموى الراشد مكانة سامقة فى التاريخ، فقد حكم لسنتين وبضعة أشهر، ملأ فيها الدنيا زهدًا وتقوى وعدلاً وحكمة، توجت جميعها بخشية الله.. سُمى تيمنًا بجده عمر بن الخطاب (والدته هى بنت عاصم بن عمر)، فحينما خطب عمر لابنه عاصم ابنة بائعة اللبن، التى رفضت غشه، قال أرجو من الله أن يخرج من نسلها رجلاً يوحد الله به صفوف الأمة، فاستجاب الله لدعائه..
كان عمر بن عبدالعزيز مثالاً للتواضع والبعد عن كبرياء الملوك وصلفهم.. ساد العدل فى عهده فزاد الخير، فتكدس بيت مال المسلمين واستحال إغلاق بابه من كثرة الأموال، ولم يجرؤ أحد أن يمسسها! فقال الناس «عف أمير المؤمنين فعفت الأمة كلها».. أرسل من ينادى بالمساجد فى ستة وعشرين دولة أين اليتامى، أين الفقراء والمساكين، فليأتوا لأخذ ما يستحقون، فلما استكفوا قال سددوا دين من عليه دين..
خرج متنكرًا مع أحد أتباعه فقابله التجار القادمون من الشام واليمن فسألهم كيف تركتم البلاد؟ قالوا: تركنا فيهم الظالم مقهورًا، والمظلوم منصورًا، والغنى مجبورًا، والفقير موفورًا، ففاضت عيناه بالدموع وقال: والله يا عمر لإن يكن ما يقولون حقًا أحب إليك مما طلعت عليه الشمس..
بكى وهو فى سكرات الموت، قيل ما يبكيك وقد أحيا الله بك سننا وأظهر بك عدلاً، قال: أن أقف بين يدى الله وأسأل هل فرطت فى حق الرعية فأخشى ألا تقوم لى حجة، فدخل عليه ابن عمه وقال لقد أفقرت أولادك الا تكتب لهم ما يقيهم العوز من بعدك، فتبسم وقال: وهل أملك من المال شيئًا، إن المال مال المسلمين وأنا خادمهم، إن أولادى بين رجلين إما أن يكونوا صالحين، والله عز وجل يتولى الصالحين، وإما أن يكونوا غير ذلك، فأرفض أن أمنحهم مالاً يستعينون به..
هل رأيتم قدوة أجمل من هذه، ما يجعل العينين تغرورقان لهذه المواقف النورانية، إن شخصيته الورعة، ومواقفه المستنيرة فى شتى مناحى الحياة، وشؤون الحكم، تمثل ضوءًا مشعًا فى ثنايا التاريخ، فترسل عن بعد دفئًا للقلوب ونورًا للعقول وتعطينا الأمل فى فجر نتوق إليه وننتظره قريبًا.
٣/ ٣/ ٢٠٠٩ المصرى اليوم