جنون الأسمنت.. وكيفية المواجهة!!
* أحمد السيد النجار
شهدت أسعار الاسمنت في الايام القليلة الماضية ارتفاعات قياسية وصلت بسعر البيع للمستهلك إلي أكثر من750 جنيها للطن, رغم ان تكلفة انتاجه تقل عن200 جينه فقط, مما يعكس حالة مختلطة من الاسعار الاحتكارية واضطراب السوق وسوء استغلال الظروف المتعلقة باضراب سائقي النقل الثقيل احتجاجا علي منع سير المقطورات في قانون المرور الجديد, والضعف لاداء الحكومة عموما في مواجهة هذه الظاهرة اللصوصية الصريحة, ويذكر لوزير التجارة والصناعة الحالي, انه كان يدافع دائما عن شركات الاسمنت وينفي وجود اي احتكار.
وكانت اسعار الاسمنت قد ارتفعت من110 جنيهات للطن عام2002 إلي130 جنيها للطن عام2003, ثم إلي280 جنيها للطن عام2004 قبل ان يتجاوز سعر الطن مستوي300 جنيه عام2005, ثم تجاوز350 جنيها في عام2006, وتجاوز450 جنيها عام2007, وتجاوز مستوي500 جنيه في نهاية عام2008, قبل ان يحقق قفزات قياسية وصلت به إلي750 جنيها تسليم المستهلك في الوقت الحالي, وهذه الأسعار ليست مسئولية الموزعين كما تحاول الشركات أو حتي بعض المسئولين ان يصوروا الأمر, بل هي مسئولية الشركات أولا حيث يخرج الاسمنت منها بأسعار احتكارية مرتفعة, كما انها تتواطأ مع بعض الموزعين وتخصهم بكميات كبيرة للبيع بسعر بالغ الارتفاع مع تقاسم الارباح معهم, وهو سلوك احتكاري معروف وقديم في مصر والعالم.
وكانت هناك تصريحات من الشركات ومن بعض المسئولين الحكوميين تبرر مستوي الأسعار المرتفع, بأنه مماثل للأسعار في الأسواق الدولية, أو بأنها اسعار مرتبطة بحركة العرض والطلب, وهي مبررات فاسدة تماما لان الأسعار العادلة تحدد بناء علي التكلفة المحلية, وليس علي التلاعب بالعرض والطلب, أو الجري وراء الأسعار العالمية المرتبطة بمستويات تكاليف اعلي كثيرا بسبب ارتفاع اسعار الغاز والكهرباء والمازوت واجر العمالة في البلدان الأخري المنتجة والمصدرة للاسمنت, وحتي هذه المبررات لاتصح في الازمة الراهنة, حيث تجاوزت اسعار الاسمنت في مصر, نظيرتها العالمية كثيرا.
ويتضاعف جرم شركات الاسمنت وكبار تجاره, اذا علمنا ان ما لايقل عن30% من اجمالي التكلفة الشاملة لانتاج الاسمنت, عبارة عن كهرباء وغاز ومازوت يتم امداد هذه الشركات بها بأسعار مدعومة تقل عن خمس اسعارها في الأسواق الدولية, ورغم ذلك فان هذه الشركات لم تتورع عن بيع انتاجها بالأسعار الدولية أو حتي بأكثر منها بكثير كما هو الوضع في الوقت الراهن.
ولونحينا التكاليف التمويلية والإدارية والتسويقية والاهلاكات والعمالة والخدمات جانبا, واخذنا فقط بتكلفة مواد الانتاج, فان المواد المدعومة بقوة اي الكهرباء والغاز والماوزت تشكل مايقرب من60% من قيمة مواد انتاج الاسمنت.
وترتيبا علي ذلك فان الحكومة مطالبة باتخاذ إجراء تمييزي ضد شركات الاسمنت ببيع المازوت والكهرباء والغاز إليها بالأسعار العالمية التي تظل اعلي كثيرا من الأسعار المحلية حتي بعد انخفاض اسعار النفط بصورة هائلة في الفترة الأخيرة, وايضا بزيادة رسوم استغلال المحاجر باعتبارها ثروة ناضبة, واستخدام العائد من هذا الرفع لأسعار تلك المدخلات في دعم أسعار الاسمنت مؤقتا لحين قيام الدولة التي تركت الحكومات المتعاقبة تفرط في هذا القطاع بأسعار متدنية, بانشاء صناعات اسمنت جديدة لتلبية الاحتياجات المحلية بأسعار معتدلة وللقضاء علي احتكار الشركات الأجنبية لإنتاجه وتلاعبها باسعاره بصورة تنطوي علي استغلال دنيء للمستهلكين وللدولة, فضلا عن قيامها بنزح اموال وموارد من مصر للخارج بدون وجه حق اقتصاديا واخلاقيا.
وتكشف الأسعار الاحتكارية التي تبيع بها شركات الاسمنت انتاجها عن الضعف الشديد لقانون حماية المنافسة ومنع الاحتكار, فضلا عن ضعف وبطء تطبيقه من قبل الوزير المختص وجهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار, وحتي بعد تعديل ذلك القانون الضعيف اصلا والذي لايحمي منافسة ولايمنع احتكارا, فان التعديل الذي تم في العام الماضي تضمن تراجعا جوهريا في إجراء مكافحة الاحتكار, حيث خلت المادة22 بعد اعادة صياغتها من النص الذي كان يعاقب من يمارس الاحتكار الضار بمصادرة الانتاج محل النشاط المخالف أو الحصول علي غرامة تعادل قيمته, وذلك رغم ان ذلك النص, كان هو الرادع الحقيقي الوحيد تقريبا في القانون.
وصحيح انه تم رفع سقف الغرامة إلي300 مليون جنيه, لكن اذا كانت الارباح الاحتكارية تتجاوز اضعاف هذا الرقم, فان العقوبة تصبح بلا قوة رادعة حقيقة, هذا فضلا عن ان تدليل المستثمرين الاجانب للحفاظ علي جاذبية سوق الاستثمار, يعوق تطبيق هذا القانون الضعيف نفسه, كما ان التعديل الذي ادخل علي القانون رفض اعفاء من يتورط في اتفاقات احتكارية, من العقوبة في حالة قيامه بالابلاغ عن جريمة الاحتكار, وهو تعديل خطير يستهدف منع المحتكرين الذي تصحو ضمائرهم أو تتناقض مصالحهم مع شركائهم في جريمة الاحتكار, من الابلاغ عن هذه الجريمة.
كما تكشف ازمة جنون الاسمنت الراهنة ايضا عن خطورة الخطأ الذي ارتكبته الحكومات المتتابعة ببيع شركات الاسمنت للأجانب الذي يتسم سلوكهم في السوق بشراهة, ودناءة في مسعاهم لتحقيق الارباح الاستثنائية علي حساب الشعب والمال العام.
ويتسم الاسمنت بانه سلعة قابلة للتلف بسرعة وتكاليف نقلها مرتفعة, وهذا يعني انه لو قرر كل مستهلكي الاسمنت في مصر بما في ذلك الحكومة كمستهلك رئيسي له في مشروعات البنية الاساسية, التوقف عن استهلاك المنتج المحلي الباهظ الثمن لمدة شهر واحد مع اشتراط تخفيض اسعاره إلي250 جنيها للطن كسعر عادل, للعودة لاستهلاك المنتج المحلي فان تلك الشركات المستغلة ستتعرض لنكسة كبري, خاصة لو تم منع تصدير انتاجها في هذه الفترة.
ويمكن القول اجمالا ان اجراءات مواجهة جنون الاسمنت تتركز في رفع رسوم المحاجر واسعار الكهرباء والغاز والمازوت علي شركات الاسمنت المصرية والأجنبية علي حد سواء, ومنع تصدير الاسمنت لحين تخفيض الأسعار لمستويات عادلة تدور حول مستوي250 جنيها للطن, والتوقف المؤقت عن البناء لمدة شهر للضغط علي الشركات المحتكرة, وفتح باب الاستيراد بدون اي رسوم, والاسراع بانشاء شركات حكومية قادرة علي قيادة الاسعار في السوق علي اسس عادلة,
واضافة لكل هذا فان هناك ضرورة لتشديد العقوبة علي السوق السوداء وتحديد هامش ربح رقمي للموزعين لايزيد علي20 جنيها للطن فوق سعر وصوله إلي الموزع, كما ان الازمة الراهنة, اثبتت مجددا ان قانون حماية المنافسة ومنع الاحتكار يحتاج للتعديل حتي يصبح قويا وفعالا في تحقيق أهدافه, كما ان الحكومة تحتاج لتعديل في السياسات حتي تحمي مصالح الشعب والدولة من المحتكرين الذين يعبثون بالاقتصاد في لحظة ازمة يتم التعامل معها عالميا بمنطق الطواريء وأوقات الحرب, ولاتحتمل التهاون مع المتاجرين والعابثين بمصالح امة عظيمة مثل مصر.
جريدة الاهرام