مصطفي محمود.. الطبيب والأديب والمفكر
عاش في مدينة طنطا بجوار مسجد >السيد البدوي< الشهير الذي يعد أحد مزارات الصوفية الشهيرة في مصر؛ مما ترك أثره الواضح علي أفكاره وتوجهاته. برع في فنون عديدة منها الفكر والأدب، والفلسفة والتصوف، وأحيانا ما تثير أفكاره ومقالاته جدلا واسعا عبر الصحف ووسائل الإعلام. كان يتصور أن العلم يمكن أن يجيب علي كل شيء، وعندما خاب ظنه مع العلم أخذ يبحث في الأديان السماوية التي وجد فيها ما نقله إلي عمق الإيمان ..
تخرج مصطفي محمود في كلية الطب متفوقا، وعلي الرغم من احترافه الطب متخصصا في جراحة المخ والأعصاب، فإنه كان نابغا في الأدب منذ كان طالبا، وكانت تنشر له القصص القصيرة في مجلة >روز اليوسف<، وقد عمل بها لفترة عقب تخرجه، مما دفعه لاحتراف الكتابة، وعندما أصدر الرئيس عبد الناصر قرارا بمنع الجمع بين وظيفتين، كان مصطفي محمود وقتها يجمع بين عضوية نقابتي الأطباء والصحفيين، ولذا قرر الاستغناء عن عضوية نقابة الأطباء،وحرمان نفسه من ممارسة المهنة إلي الأبد، مفضلا الانتماء إلي نقابة الصحفيين، والعمل كأديب ومفكر.
وعندما سئل ماذا يملك الطبيب من إمكانات تشجعه علي أن يكون أديبا وفنانا؟ أجاب بأن للطب علاقة وثيقة بالحياة وأسرارها وخفاياها، فالطبيب هو الوحيد الذي يحضر لحظة الميلاد ولحظة الموت، وهو الذي يضع يده علي القلب ويعرف أسرار نبضه، وكل الناس يخلعون ثيابهم وأسرارهم، بين يدي الطبيب، فهو الوحيد الذي يباشر الحياة عارية من جميع أقنعتها، وبما أن الطب علم، والأدب علم، فالتكامل في الحياة البشرية قضي بأنه لا غني لأحدهما عن الآخر، يعني الطب والأدب، وكذلك الطبيب والأديب .
البحث في العقيدة
في عنفوان شبابه كان تيار المادية هو السائد، وكان المثقفون يرفضون الغيبيات، فكان من الطبيعي أن يتأثر مصطفي محمود بما حوله، ولذلك كما يقول في أحد كتبه: احتاج الأمر إلي ثلاثين سنة من الغرق في الكتب، وآلاف الليالي من الخلوة والتأمل مع النفس، وتقليب الفكر علي كل وجه لأقطع الطرق الشائكة، من الله والإنسان إلي لغز الحياة والموت، إلي ما أكتب اليوم علي درب اليقين. وبالرغم من اعتقاد الكثيرين بأن مصطفي محمود أنكر وجود الله، فإن المشكلة الفلسفية الحقيقية التي كان يبحث عنها هي مشكلة الدين والحضارة، أو العلم والإيمان، وما بينهما من صراع متبادل أو تجاذب؛ ففي كتابه >رحلتي من الشك إلي الإيمان< ترجم لحياته الروحية قائلا: إن زهوي بعقلي الذي بدأ يتفتح، وإعجابي بموهبة الكلام ومقارنة الحجج التي تفردت بها، كان هو الحافز، وليس البحث عن الحقيقة ولا كشف الصواب، لقد رفضت عبادة الله لأني استغرقت في عبادة نفسي، وأعجبت بومضة النور التي بدأت تومض في فكري مع انفتاح الوعي وبداية الصحوة من مهد الطفولة
في فترة شبابه
كانت رحلته من الشك إلي اليقين تمهيدا لفض الاشتباك بين العلم والإيمان، وذلك عن طريق علو الإنسان بالمادة إلي ما هو أبعد أفقا وأرحب مدي. ويبدو أن هذا الأمر وراء أن يوقف جزءا كبيرا من حياته في مشروع واحد اسمه >العلم والإيمان<، سرد مراحل هذا المشروع من خلال 8 كتب، وحينما جاءته فكرة البرنامج كان تنفيذها علي أرض الواقع غاية في الصعوبة، فقد عرضها علي التليفزيون المصري فاعتمدوا له 30 جنيها مصريا فقط للحلقة الواحدة! في حين أن البرنامج كان يستلزم السفر للخارج ومتابعة آخر الأبحاث، ولذا بدأ اليأس يتسرب إلي نفسه، حتي قابل رجل أعمال شهير، فحدثه في أمر البرنامج، فإذا به يخرج دفتر الشيكات، قائلا له: >لن أناقشك في النفقات، ولكن المهم خروج هذا العمل العلمي والديني إلي النور<.
ولاقي البرنامج نجاحا كبيرا، واجتذب جماهير كثيرة نظرا لأسلوبه الذي جذب به قلوب وعقول البسطاء قبل العلماء، ولكن علي الرغم من ذلك النجاح، فوجئ د. محمود بعد سنوات - بإبعاد هذا البرنامج الجماهيري عن خريطة التليفزيون المصري دون إبداء الأسباب.
تصوير الأفكار
انطلاقا من بحثه عن الحقيقة وإشباعا لشغفه بالنفس الإنسانية وبحثه عن المجهول، تميز مصطفي محمود بفن قصصي خاص، فبإمكاناته الفنية جمع بين إحساس الأديب وإدراك الفيلسوف ومزج هذين البعدين بأسلوب عصري فيه عمق الفكرة ودفء العبارة، فيه البصر الذي يوحي بالبصيرة، والمادي الذي يؤدي إلي المعنوي، والعبارة التي تلتقي بالرؤية كأروع ما يكون اللقاء.
وصفه جلال العشري في كتابه >مصطفي محمود شاهد علي عصره< قائلا: هو يتعاطي الأشياء بعقله، ثم يعيها بوجدانه ثم يجسدها بقلمه، فإذا هي مسرحية أو رواية أو قصة قصيرة، فإذا هي قطعة من الواقع وشريحة من الحياة، أو هي بنية حية فيها دسم الواقع ونبض الحياة، فنه القصصي غير قابل للتمذهب، استطاع أن يفلسف حياته ويحيا فلسفته، وأن يتخذ من أزماته النفسية الحادة وزلازله الباطنية العنيفة وتجاربه الحية وخبراته الوجدانية مادة لأدبه.
حملت رواياته كثيرا من التناقضات، لكنه التناقض الحي الذي يعبر عن تلك العملية الروحية الشاقة التي يبذلها الفنان لاستجلاء معني الوجود، فلم يتجه في قصصه إلي تصوير نماذج كلاسيكية من الشخصيات، وإنما اتجه إلي تصوير أفكار في مواقف تحس وتتحرك وتطور من نفسها، فالشخصيات عنده وعاء للفكرة والقضية. والسؤال المحوري في قصصه القصيرة هو مشكلة تعالي الإنسان علي ذاته وعلي ذوات الآخرين، أما في رواياته فكانت المشكلة هي: إلي أين يريد الإنسان أن يصل؟ وألا يؤدي هذا العلو علي كل شيء إلي اللاشيء؟ وما هي المستحيلات التي لابد أن يواجهها؟ وهذه المستحيلات عنده هي: الإنسان، المجتمع، الزمن، التاريخ، وروح العصر. ويبرز ذلك الفكر في رواياته: >المستحيل< و>الأفيون< و>العنكبوت< و>الخروج من التابوت< و>رجل تحت الصفر<، ذلك هو المنهج الفلسفي الذي بني رواياته عليه، أما واقعية رواياته فهي المادة الحية التي يغترف منها أحداثه وشخصياته، إنه الواقع الأوسع أفقا، الذي يمتد ليشمل كل معاني الحياة التي هي أشمل من المجتمع.
معارك فكرية
دخل مصطفي محمود في حياته عدة معارك، ووجهت إليه عدة اتهامات، أهمها:
اتهام منتقديه له بأن مواقفه السياسية متضاربة، تصل إلي حد التناقض في بعض المواقف، إلا أنه لا يري ذلك، ويؤكد أنه ليس في موضع اتهام، وأن اعترافه بأنه كان علي غير صواب في بعض مراحل حياته هو ضرب من ضروب الشجاعة والقدرة علي نقد الذات، وهذا شيء يفتقر إليه الكثيرون ممن يصابون بالجحود والغرور، مما يصل بهم إلي عدم القدرة علي مواجهة أنفسهم والاعتراف بأخطائهم.
اتهامه بالكفر في نهاية الستينيات بعد سلسلة من المقالات، وصدور كتابه >الله والإنسان< الذي تمت مصادرته وتقديمه بعدها للمحاكمة التي طلبها الرئيس جمال عبد الناصر بنفسه، بناء علي تصريح الأزهر،باعتبارها قضية كفر،وقد اكتفت لجنة المحاكمة وقتها بمصادرة الكتاب دون حيثيات،وإن كان الأمر انعكس في عهد الرئيس أنور السادات، فقد أبلغه إعجابه بالكتاب،وطلب منه طبعه مرة أخري،ولكنه استبدل به كتاب >حوار مع صديقي الملحد<، لتتوطد بعدها علاقته بالرئيس السادات. ويـذكر أن الرئيس السادات كلفه بمهام إحدي الوزارات فاعتذر قائلاً: >أنا فشلت في إدارة أصغر مؤسسة وهي زواجي،فقد كنت مطلقا لمرتين، فأنا أرفض السلطة بكل أشكالها<.
اشـتهر بهجومه المتواصل علي الصهيونية، ورأيه بأن اليهود وراء هذه الشبكة الأخطبوطية للفساد والإفساد في العالم كله، مما تسبب في لزوم حارس بباب منزله منذ سنوات، بتكليف من وزارة الداخلية، لحراسته بعد التهديدات التي تلقاها، أو لعزله عن الحياة العامة كما رأي البعض!.
وتأتي الأزمة الشهيرة المعروفة باسم >أزمة كتاب الشفاعة< والتي وقعت عام 2000 لتثير الكثير من الجدل حوله وحول أفكاره، وتتلخص فكرة الكتاب في أن الشفاعة التي سوف يشفع بها رسول الله عليه الصلاة والسلام لأمته، لا يمكن أن تكون علي الصورة التي يعتقدها المسلمون، ويروج لها علماء وفقهاء الشريعة!! إذ الشفاعة بهذه الصورة تمثل دعوة صريحة للتواكل الممقوت شرعا، وتدفع المسلمين إلي الركون إلي وهم حصانة الشفاعة. وعليه ظهر مصطفي محمود وكأنه منكر لوجود الشفاعة من أساسها!! وانفجرت الردود في وجهه من جميع الاتجاهات حتي تجاوزت (14) كتابا. وحاول مصطفي محمود الصمود والانتصار لفكره، خاصة أنه لم يكن يقصد إساءة للدين، ودافع عن تصرفه بحرية الفكر والرد والاعتراف بالخطأ، إلا أن هذه الأزمة مع كبر سنه وضعف صحته أدت إلي اعتزاله الحياة الاجتماعية، فامتنع عن الكتابة إلا من مقالات بسيطة في مجلة الشباب، وجريدة الأخبار. ثم أصيب عام 2003 بجلطة في المخ أثرت علي الحركة والكلام، ولكن مع العلاج تحسنت حالته الصحية، واستعاد القدرة علي الحركة والنطق مرة أخري، واستمر في عزلته مع رفيقه الوحيد: الكتاب.
خادم كلمة التوحيد
كتب الدكتور مصطفي محمود بعد فشل زواجه الثاني مقالا شهيرا يلخص فيه رؤيته للحياة يقول: قررت بعد الفشل الثاني أن أعطي نفسي لرسالتي وهدفي كداعية إسلامي ومؤلف وكاتب وأديب ومفكر .. وقد اقتنعت تماما بأن هذا قدري،ورضيت به. ومنذ هذا الحين وأنا أعيش في جناح صغير بمسجدي بالمركز الإسلامي .. أغرق وحدتي في العمل وتعودت أن أعطي ظهري لكل حقد أو حسد ولا أضيع وقتي في الاشتباك مع هذه الأشياء وأفضل أن أتجنبها وأتجنب أصحابها حتي لا أبدد طاقتي في ما لا جدوي وراءه .. انتصاراتي علي نفسي هي أهم انتصارات في حياتي .. وكانت دائما بفضل الله وبالقوة التي أمدني بها وبالبصيرة والنور الذي نور به طريقي.
كان مصطفي محمود يحتفظ لنفسه بنظام صارم في حياته، قائم علي الزهد في الحياة والتأمل فيها، وهو دائما يقرأ كل شيء سواء أكان تفسيرا أم نقدا ولا يلفت نظره اسم الكاتب فالمهم عنده موضوع الكتاب،حياته كـلها كـانت قـراءة لدرجة أن ابنته "أمل" تقول إنهم كانوا يظنون أنه غير موجود في المنزل بسبب اعتكافه علي الكتب الساعات الطوال، وازداد حبه للقراءة بعدما اعتزل التأليف بكل أنواعه،وكان لا يشاهد التلفاز إلا لمتابعة الأخبار، وأصبحت عبارة "شيء مؤسف" تعليقه الوحيد علي معظم ما يراه، وكان ميالا إلي العزلة ويعترف بأنه فقد ملكة الابتكار.
وبعد رحلة العمر استطاع مصطفي محمود تحديد هويته أخيرا، إذ يقول: .. ولو سئلت بعد هذا المشوار الطويل من أكون؟! هل أنا الأديب القصاص أو المسرحي أوالفنان أو الطبيب؟ لقلت: كل ما أريده أن أكون مجرد خادم لكلمة لا إله إلا الله،وأن أكون بحياتي وبعلمي دالاًً علي الخير"
( منقول من مجلة المحروسة (مصرية تصدر فى كندا )