ازدواج المعايير أو الكيل بمكيالين هو مايصح أن يؤخذ علي قرار المحكمة الجنائية الدولية بشأن توقيف الرئيس البشير, وليس التآمر أو الضلوع في مؤامرة كونية. فالمشكلة الجوهرية في هذا القرار, كما في قرار مجلس الأمن رقم1593 بإحالة أزمة دارفور إلي تلك المحكمة, واضحة لا لبس فيها. فهي جزء من مشكلة النظام العالمي الذي يكيل بمكيالين ويضع الإجرام الصهيوني السافر فوق القانون الدولي, ويحمي الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش وأركان إدارته من المساءلة والمحاسبة علي ما ارتكبوه من جرائم بشكل عام, وفي العراق بوجه خاص.
هذه هي المشكلة الجوهرية, التي لاتحتاج إلي مزيد لكي نبني عليها موقفا متحفظا علي قرار المحكمة الجنائية الدولية. أما الحديث عن مؤامرة دبرت في ليل, بعد أن ظلت الأزمة تتفاقم علي الأرض لنحو ستة أعوام, فهو قفز مقصود علي الواقع لأن القائلين يعلمون أنه مختلق.
ولذلك فربما لايكون هذا الحديث تجليا جديدا من تجليات نظرة المؤامرة في العقل العربي, بمقدار ماهو تعبير عن شكل جديد من أشكال التعاطي مع أزمة دارفور عبر القفز عليها وليس من خلال العمل الجاد لحلها أو علي الأقل احتوائها.
وإذا أمكن فهم لجوء الحكومة السودانية إلي حديث المؤامرة سعيا إلي تعبئة داخلية واسعة ضد الخارج الذي يعج بشياطين ديدنها المؤامرة, فهو يبدو مثيرا للاستغراب حين يتبناه بعض أنصارها في الخارج. وربما يجوز تفسير ذلك بسعيهم إلي استثمار المكانة التي تحظي بها نظرية المؤامرة في العقل العربي, بالرغم من أنها تراجعت نسبيا في الفترة الأخيرة. غير أن تراجعها هذا لايكفي لوضع حد لتوجه قوي لايري خطرا أو يأبه له إلا إذا جاء من الخارج, ولايقر بأن تراكم الاختلالات في الداخل يمكن أن يكون أشد خطرا, فضلا عن أنه هو الذي يستدعي الخطر الذي يأتي من الخارج. وكان هذا التوجه, سواء لدي الحكومة السودانية أو علي مستوي النظام العربي الرسمي, أحد أهم أسباب ترك الأزمة تتفاقم في دارفور علي نحو دفع إلي تدخل دولي ازداد تدريجيا حتي بلغ مبلغه الراهن. فالأزمة لاتكون خطيرة إلي الحد الذي يستدعي استنفار أقصي الجهود لمعالجتها إلا إذا أدت إلي تدخل أجنبي, كما أن هذا التدخل لايكفي لإعطائها أولوية قصوي إلا إذا انطوي علي إجراءات حادة. ولذلك لم يكن التدخل, الذي بدأ محدودا بقرار مجلس الأمن رقم1556 في آخر يوليو2004,
كافيا لإطلاق تحرك سوداني ـ عربي ـ إفريقي منظم ومدروس جيدا لحل الأزمة وفق برنامج زمني محدد. اقتصرت الإجراءات التي اتخذها مجلس الأمن, في ذلك القرار, علي حظر توريد وتصدير معدات عسكرية إلي الميليشيات المتصارعة في دارفور. ولم يتضمن أي إجراء فعلي ضد الحكومة السودانية. ويعني ذلك أن توسع نطاق التدخل الدولي بعد ذلك حدث بشكل طبيعي. فلم يكن هناك استهداف في ذلك الوقت, ولا هم يحزنون. ويتعارض ذلك مع الافتراض الأساسي في نظرية المؤامرة وهو أن العرب والمسلمين مستهدفون علي الهوية, وأن الدور يحل علي دولهم تباعا. ووفقا لهذا الافتراض, لابد أن يكون المتآمرون هم الذين خلقوا أزمة دارفور أصلا ثم دفعوا نحو تفاقمها كذريعة لاستهدافهم السودان. غير أن وقائع تطور الأزمة تفيد أن مجلس الأمن تدخل بصورة ناعمة في البداية, وبمنأي عن استهداف الحكومة السودانية. وكان هناك نحو عامين بين نشوب الصراع المسلح في عام2003 وقرار مجلس الأمن رقم1593 بإحالة الأزمة إلي المحكمة الجنائية في عام2005.
وهذه فترة كافية لاحتواء أزمة من هذا النوع, وخصوصا إذا كان النظام العربي الرسمي تعاطي معها بجدية وساهم في وضعها علي طريق الحل. ولم يكن هذا الدور فوق قدراته المحدودة المرتبطة بضعف مستوي التفاعلات ذات الطابع التكاملي بين أعضائه. كان في إمكان النظام العربي, وفي حدود امكاناته المتواضعة علي هذا الصعيد, مساعدة السودان بطرق منها مثلا البدء في مشروع كبير لتنمية دارفور تنعكس نتائجه الايجابية علي الكثير من الدول العربية أعضاء هذا النظام. فقد نتجت الأزمة عن ظروف بيئية صعبة أحدثت جفافا ضرب المراعي التي تعتبر مصدر الرزق الرئيسي لسكان دارفور. وأدي نزوح أبناء قبائل تآكلت مراعيها إلي مناطق أخري أفضل حالا إلي احتكاكات تحول إلي مشاحنات فاشتباكات صغيرة فصدامات واسعة وردود فعل انتقامية, وصولا إلي صراع مسلح أفلت من السيطرة وأنتج الأزمة التي تشغل العالم الآن.
ولكن النظام العربي لم يعن بالأزمة إلا بعد إصدار مجلس الأمن قراره رقم1556. وبالرغم من أن الوقت كان مبكرا, تركز اهتمام هذا النظام علي رفض التدخل الأجنبي أكثر مما أمتد إلي عمل جاد لاحتواء الأزمة ووضعها علي طريق الحل. ويبدو الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب في أغسطس2004 نموذج في إساءة إدارة أزمات تبدأ صغيرة ثم تتفاقم ويتجاوز أثرها حدود البلد الذي تحدث فيه. فقد رفض هذا الاجتماع التدخل الأجنبي, خصوصا علي المستوي العسكري, دون عمل جاد لقطع الطريق علي مثل هذا التدخل.
فكان أن أخذت الأزمة تتفاقم, والتدخل الأجنبي يزداد بالتالي. وأصبح الوضع منذرا بخطر هائل عندما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال ضد الوزير أحمد هارون وأحد قادة ميليشيا الجنجويد محمد علي كوشيب. ومع ذلك, بقيت الحكومة السودانية مستهينة بتداعيات تتوالي وتتوالد, ومتقوقعة في موقع الدفاع عن أخطاء فادحة أدت إلي ارتكاب جرائم حرب غير مقصودة في دارفور.
كما أن انفضاض القمة العربية التي استضافتها الخرطوم في عام2006 دون أدني اهتمام بالسعي إلي معالجة أكثر جدية لأزمة دارفور أعطي إشارة بالغة السلبية إلي المجتمع الدولي, في الوقت الذي كانت منظمات حقوقية تسابق الزمن لتصعيد الموقف ضد الحكومة السودانية من خلال قنوات عدة صارت المحكمة الجنائية الدولية أهمها منذ إحالة القضية إليها.
وكان في إمكان حكومة الخرطوم أن تحتوي هجمة هذه المحكمة عبر إحالة من اتهمتهما إلي محاكمة وطنية توفر لها شروط النزاهة وتفتحها أمام الإعلام العالمي وكل من يرغب في متابعتها. والأكيد أن أي تكلفة سياسية لمثل هذه المحاكمة هي أقل بكثير مما ترتب, وسيترتب, علي تدويل متزايد للأزمة لاتحده حدود. ولاسبيل اليوم إلي الحد من هذا التدويل إلا عبر تحرك عربي جاد تقبله الحكومة السودانية سعيا إلي إنقاذ مايمكن إنقاذه, ويشتمل علي مكونات سياسية واقتصادية اغاثية ـ تنموية وقانونية ـ قضائية. وعندئذ قد لاتكون ثمة حاجة إلي حديث المؤامرة المفتعل, وربما تتوافر لنا فرصة لشن هجوم مضاد ضد العدالة الدولية المزعومة التي تكيل بمكيالين وتزن بميزانين.